محمد بن عايض
ألف الجاحظ مؤلفه “البخلاء” ليحكي قصصًا مثيرة حول بخلاء زمانه. وعندما تغوص في أعماق تلك الحكايات، تكتشف أن هؤلاء البخلاء يتشبثون بمبررات واهية لسلوكهم الجشع، معتبرين أنه نوع من الحكمة والفطنة، وكأن قلوبهم المتحجرة هي رمز للعقل والتخطيط السليم.
البخل والشح والتقتير ألوان متعددة من القصور، أهمها بالطبع الشح بالمال مع القدرة على العطاء والبذل، وحين نستعرض بعضا من قصص بخلاء عصرنا أولئك الأغنياء الذين تحسبهم فقراء من شدة الشح يسطرون قصصا مذهلة.
من غرائب قصص البخلاء في وقتنا الحاضر أن أحد رجال الأعمال الصغار الموسرين دعا بعضا من أصدقائه للعشاء في مطعم وحين جلس الرجال الخمسة حول المائدة تناول قائمة الطلبات، وتنحنح وتلفت يمنة ويسرة، ثم طلب طلبا أثار استغراب من حوله!! وخيم الصمت على الحضور حين طلب نصف دجاجة مع الرز لخمسة من الرجال، بينما توقع الجميع أن هناك طلبات أخرى فإذا به يقول: إذا لم تكف طلبنا نصفا آخر…!!
القصة نفسها لبخيل آخر مع أحد أقاربه في زيارة عائلية، فإذا به يفاجئهم بنص دجاجة للرجال والنصف الآخر للنساء. هذه القصص عن بخلاء هذا العصر ليست من نسج الخيال، بل هي واقع مؤكد عاصره شهود عيان.
إن هؤلاء البخلاء ليسوا ممن يعانون ضيق ذات اليد، بل إن شحهم ينبع من غرس سام في نفوسهم، يُسقى بماء الخوف والطمع الآسن ، ويحيط بهم جبن وضعف في الإيمان والتوكل. ومن العجيب أن تجد لهؤلاء الذين يروّجون للبخل، ويرون فيه خلقاً رفيعاً، معجبون بسلوك هذه الشخصيات البائسة، ويعتبرونهم نماذج للذكاء والحكمة. والذم في حق سلوكهم أوجب. لسوء خلقهم فهم في قانون الأخلاق والأديان والأعراف في الحضيض، وهم بهذا السلوك أذل من وصفهم بالدهاء والحكمة، بل هم جنس آخر نترفع عن ذكره لسوء وصفه.
الحقيقة الساطعة هي أن مدح أولئك الذين يتسمون بهذا الخلق والسلوك القبيح ليس في مصلحة المجتمع، بل يضر به ضرراً بالغاً.والمقصود مما ورد ليس دعوة إلى التبذير والإسراف، وإنما للتوسط ونشر فضيلة الكرم ونبذ الشح. ونعود إلى القول لو كان الجاحظ حيا لكتب الجزء الثاني من كتابه الخالد ولروى قصصا عصرية أكثر غرابة وإدهاشا لهذا السلوك اللئيم .