محمد بن عابض
تُعتبر مهارات الحديث من أرقى أدوات التواصل الإنساني وأساسيات بناء العلاقات الاجتماعية، فهي قدرة فريدة وثمينة لا تُقدّر بثمن، لا سيما في مجالات الحياة الاجتماعية والمهنية. بعيدًا عن الأحاديث السطحية التي تفتقر إلى المعنى. ومع ذلك، هناك لحظات تتطلب منا التوقف وإعادة التفكير، حيث يصبح الصمت فيها أكثر حكمةً وأجدى نفعًا من الكلام. من بين هذه المواقف التي يُفضل فيها الصمت:
الحاجة إلى التنفيس: إن التعبير عن المشاعر بمختلف أنواعها يُعتبر حاجة إنسانية أساسية لا غنى عنها. فعندما يقترب منك شخص مشحون بالغضب ومكتوم المشاعر، يكون قد جاء إليك ليُفضي بما في قلبه، أكثر من كونه يبحث عن نصيحة. إنه يعتقد أنك الأقرب لفهم ما يعانيه، وهنا يصبح الصمت أكثر حكمة من الكلام، ويغدو الاستماع هو أفضل ما يُقدّم في هذه اللحظة دون مقاطعات أو تعليقات مطوّلة. إن حاجة الإنسان إلى من يستمع له تُعدُّ حاجة ماسة تفوق بكثير رغبته في الحصول على استشارة، كما أن احتياجه إلى كلمات الدعم والتحفيز والمواساة يُعتبر أكثر إلحاحًا من أي شيء آخر.
في مواجهة الإهانات: يظن البعض أن الردود السريعة والمتلاحقة على كلمة الإهانة العابرة يمكن أن تصلح الأمور، لكن الحقيقة تتجلى في أن التريث هو الخيار الأفضل. إذ إن تزايد الكلمات يثير نيران الغضب، ويشعل فتيل الخلاف، وقد ينتهي الأمر إلى مشادات، سواء كانت لفظية أو جسدية. ومن ثم، فإن أفضل وسيلة لمواجهة الكلمة الجارحة هي الصمت، فترك الإهانة تمر دون رد يُعدّ أسمى من الدخول في صراعات مطولة وعداوات مزمنة. إن الصمت هو رمز عميق لثقة الإنسان بنفسه.
حفظ الأسرار: عندما تُعطى الأمانة في أسرار الآخرين، وحين يفتحون لك قلوبهم ليبوحوا بما يخالج صدورهم، تصبح حاملاً لتلك المشاعر الثمينة. إن الحديث عنها للآخرين هو جريمة في حق هذه الثقة، لذا فإن الصمت عنها يُعتبر من أسمى صور الأدب. إن هذه الأمانة لا تعزز فقط ثقة الناس بك، بل تُبرز مكانتك في قلوبهم. أما بالنسبة لأسرارك الخاصة، فهي ملكك وحدك، لك أن تتحدث عنها كما تشاء. لكن يظل الصمت عن أسرار الآخرين دليلاً على رقيّ النفس ومروءتها وسمو الأخلاق.
في خضم الجدل العنيف: عندما يتزايد عدد المتحدثين، وتشتعل نيران النقاش، وترتفع الأصوات إلى عنان السماء، ويكثر المتجادلون وتتداخل الآراء، فإن خيارك بالصمت يصبح تجسيدًا للحكمة. دخولك في هذه الزوبعة لن يعود عليك بالنفع، بل قد يجرّ إليك تجاوزات أنت في غنى عنها، أو قد تُلقي بكلمة على أحدهم تندم عليها طويلًا. لذا، عندما تكثر الأصوات، فالتزم سكونك.
فيما لايعرفه ولايفهمه: هناك من يتصدر للفتوى في العلوم كلها، ويظن أنه على علم بكل شيء، ولا يتردد في نقل الأخبار، سواء كانت صادقة أو كاذبة، دون أن يتحرى أو يتثبت. وهذا السلوك يزرع العديد من المشكلات، ولتفادي فقدان ثقة الآخرين، ولعدم تقديم نصائح فارغة، ينبغي أن يلتزم الإنسان الصمت فيما لا يعرفه أو يفهمه، حتى يتأكد من صحة المعلومة أو الخبر الذي بلغه. في مثل هذه الحالات وتلك اللحظات، يكون الصمت أبلغ وأجدى من الكلام.