دعوة إلى سلام داخلي امحها يا علي 

بقلم : د . خالد الغامدي 
اخصائي نفسي وخبير تربوي

نحن في عالم تكاثرت فيه الخلافات، وضاقت فيه صدور الناس ببعضهم، تبرز لنا عبارة نبوية قصيرة تحمل بين حروفها حكمة عظيمة، وتكشف عن منهج راقٍ في التعامل مع النزاعات: “امحها يا على.” تلك العبارة التي قالها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم ) لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في أثناء كتابة صلح الحديبية، حين اعترض ممثل قريش، سهيل بن عمرو، على كتابة “محمد رسول الله”، قائلاً: “لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صدَدناك عن البيت.” فطلب النبي (صلى الله عليه وسلم)  من على أن يمحو تلك العبارة، ويكتب بدلًا منها “محمد بن عبد الله”، لكن عليًّا تردد وقال: “والله لا أمحوها أبدًا”، فما كان من النبي  (صلى الله عليه وسلم )   إلا أن أخذ الصحيفة ومحاها بنفسه، بكل سكينة وثبات.

ذلك الموقف لم يكن مجرد تنازل لفظي، بل كان درسًا عميقًا في فن تجاوز التفاصيل الصغيرة من أجل تحقيق مقاصد عظيمة. لقد أراد النبي أن يعلمنا أن التخلي عن شيء نحبه لا يُعد ضعفًا إذا كان الهدف أسمى، وأن الحكمة أحيانًا تقتضي أن نخسر جزءًا من الموقف لنربح السلام كله. هذه العبارة، “امحها يا علي”، تحولت إلى قاعدة ذهبية في العلاقات الإنسانية، تضعها أمامنا الحياة في كل خلاف، وكل لحظة توتر، وكل موقف يهدد المحبة بين اثنين.

نحن بحاجة إلى هذه القاعدة اليوم أكثر من أي وقت مضى. ما أحوج الزوجان إليها حين تثور الخلافات الصغيرة فتكبر، وما أحوج الوالد وولده إليها عندما يسقط الحوار في حفرة سوء الفهم، وما أحوج الأخ وأخوته، والجار وجاره، والصديق وصديقه، والمجتمع بأكمله، لهذه الروح التي تتجاوز الزلات، وتغفر الهفوات وتفتح طريقًا للحد مجددا. إن التماس الأعذار، وإحسان الظن، والصفح، والعفو، ليست مجرد فضائل، بل هي أدوات فعالة في ترميم العلاقات وبناء الجسور بين القلوب. نسيان الماضي ليس تجاهلًا، بل نضجٌ يحرّر الإنسان من أثقال لا طائل منها، والمسامحة ليست ضعفًا، بل شجاعة تُقابلها شجاعة الاعتذار، وكلاهما لا يصدر إلا عن قلب كبير.

“امحها يا علي” ليست فقط حلاً لخلاف، بل هي دعوة إلى سلام داخلي، لراحة ضمير، وطمأنينة قلب، وهي خطوة بسيطة على الورق، لكنها تفتح أبوابًا عظيمة في الواقع. إنها ليست فقط من أساليب النبوة مع أعداء قريش، بل هي أولى أن تُطبّق بين الأحباب، بين من جمعتهم مودة، وفرّقتهم لحظة ضيق. فهلاّ تعلمنا كيف نمحو قبل أن ننفصل؟ وهلّا بدأنا نمارسها، لا لنربح الجدل، بل لنربح القلوب؟

اترك تعليقاً