كانط والجمال بلا غاية : قراءة فلسفية في نقد الحكم ..بقلم د. عصام عسيري

كانط والجمال بلا غاية: قراءة فلسفية في نقد الحكم

بقلم : د / عصام عسيري


كانط وجمال العالم، حين يصبح الذوق حكمة فلسفية، قراءة في “نقد الحكم” (تأملات في فن الجمال)   

في عالم مثقل بالأحكام السطحية والانطباعات السريعة، يبدو الحديث عن “الجمال” فعلًا مؤجلًا أو رفاهية فكرية. لكن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724–1804) أدرك باكرًا أن الجمال ليس ترفًا، بل أحد مفاتيح الفهم العميق للعالم والذات. في كتابه الثالث والأخير ضمن مشروعه النقدي، والمعنون بـ “نقد الحكم” (1790)، أو كما يُترجم أحيانًا بـ “تأملات في فن الجمال”، يُقدّم كانط معالجة فلسفية دقيقة لمفهوم “الحكم الجمالي” بوصفه تجربة معرفية فريدة، تقف بين العقل والإحساس، بين الذات والموضوع، بين الطبيعة والحرية.

ما هو “نقد الحكم”؟
بعد أن تناول كانط في كتابيه السابقين “نقد العقل المحض” (1781) و*”نقد العقل العملي”* (1788) حدود المعرفة الأخلاقية والعقلية، جاء “نقد الحكم” ليكون الجسر بينهما، حيث يسائل فيه تجربة الجمال، والذوق، والفن، والطبيعة، وموقع الإنسان داخل هذا النسق.

الجمال بالنسبة لكانط ليس مجرد خاصية للأشياء، بل طريقة معينة نحكم بها على الأشياء. أي أن الجمال، في جوهره، ليس في الشيء، بل في التجربة التي نكوّنها تجاهه.
يرى أن “الجميل هو ما يُرضي الجميع دون أن يستند إلى مفهوم.”

من أبرز أفكار كانط في الذوق واللا-نفعية الجمالية، أن الحكم الجمالي لا يقوم على منفعة أو وظيفة. حين أقول عن زهرة إنها “جميلة”، فأنا لا أعني أنها نافعة أو صالحة للأكل أو التزيين، بل أعني أنها تثير في نفسي شعورًا بالرضا دون مصلحة.
“الرضا عن الجمال خالٍ من كل مصلحة.”

هذا ما يميز الجمال عن اللذة أو الخير. الجمال يسرّنا مجردًا، وكأننا ننظر إليه من خارج دوافعنا الذاتية. لذا فإن الحكم الجمالي، رغم أنه ينبع من الفرد، يُطرح كما لو كان عالميًا. نحن نحكم على الجمال على أنه يرضي الجميع، دون أن نملك حججًا عقلانية لذلك.

اللعب الحُر بين الخيال والفهم، يرى كانط أن الحكم الجمالي يقوم على نوع من “اللعب الحر” بين ملكتين معرفيتين: الخيال (Einbildungskraft) و الفهم (Verstand). في تجربة الجمال، لا تكون المعرفة محددة، ولكنها تتولد من انسجام حسي داخلي يجعلنا نشعر بأننا نعيش حالة من التوازن:
“الجمال هو شكل الملاءمة في شيء، ما دمنا نراه دون أن نملك تصورًا عن غاية له.” أي أن الجمال يبدو ملائمًا وكاملًا، دون أن نعرف لماذا أو لأجل ماذا.

 

في عالم طغت فيه الصيغ التجارية على الفنون، وأصبح “الذوق” مسألة خاضعة للخوارزميات، يمنحنا كانط أداة تأملية تحرّر الجمال من التشييء، وتُعيد له موقعه كفعل حرّ.

 

الفن عند كانط: بين العبقرية والذوق، في القسم الثاني من الكتاب، ينتقل كانط من الجمال الطبيعي إلى الجمال الفني، ويتناول مفهوم “العبقرية” بوصفها القدرة على إنتاج ما لا يمكن استنباطه وفق قاعدة.
“العبقرية هي الموهبة (المَلَكة الطبيعية) التي تُملي على الفن قاعدته.” لكن هذه العبقرية لا تكتمل إلا بوجود ذوق يصقلها. فالعبقري لا يخلق العمل الفني من فوضى، بل من انسجام بين الإبداع والقبول الجمالي العام.

من الطبيعة إلى الجمال الأخلاقي، أحد أبرز الطروحات في “نقد الحكم” أن الجمال يُمهّد للأخلاق. فعندما نحكم على شيء بأنه جميل، نكون قد تجاوزنا الرغبة والمصلحة، وبالتالي نكون قد تمرّنا على نوع من “الحرية الداخلية”، تشبه تلك التي نحتاجها لنحكم أخلاقيًا.
في الجمال، نحن نمارس الحرية كما في الأخلاق، ولكن بطريقة شعورية لا إلزامية.

لماذا رؤى كانط صالحة لليوم؟
في عالم طغت فيه الصيغ التجارية على الفنون، وأصبح “الذوق” مسألة خاضعة للخوارزميات، يمنحنا كانط أداة تأملية تحرّر الجمال من التشييء، وتُعيد له موقعه كفعل حرّ.
إن “نقد الحكم” ليس كتابًا عن الجمال فقط، بل عن القدرة الإنسانية على الحكم دون أن تكون لدينا معايير قطعية—وهذه، كما يدرك كانط، هي جوهر الإنسانية نفسها.

ختاما، الجمال ك تجربة حرة، يبقى كتاب “نقد الحكم” نصًا تأسيسيًا لكل من أراد أن يفهم الفن، أو الطبيعة، أو حتى الحياة، لا كأشياء نملكها، بل كتجارب نعيشها. في زمن الضجيج الجمالي، يعلّمنا كانط أن الجمال الحقيقي هو ذلك الذي يحرّرنا من أنفسنا، لنكون أكثر إنسانية، وأكثر انفتاحًا على العالم .

 

اترك تعليقاً