حسدة
بقلم الكاتبة / سلافة سمباوة
تلك العقول المصابة بالضبابية، توصد على نفسها بأقفال، وتسجن نفسها برضاها في قلعة الأوهام: وهم الأهمية، وهم الامتلاك لشيء لا يمتلكه الآخرون. كحال تلك البيضاء في مجموعة من ذوي البشرة الحنطية تظن أنها وحدها وهبها الله بشرة كالثلج. أو الذي امتلك سيارة بالأقساط ويظن أنه وحده الذي امتلك سيارة، ويا ليتها وكالة! إنما مستعملة ومتهالكة، ويفكر أن الناس سيحسدونه عليها المتفردة!
لطالما أثارت ضحكاتي عقول تخاف الحسد والعين والسحر لحد الهوس والقلق والتوجس والريبة. وكلما أمعنت في حياتهم أجدها مليئة بالمخاوف، لا شيء حقيقي يمتلكونه ليُحسَدوا عليه. لا شيء حقًا. لا يمتلكون قصرًا ولا سيارات فارهة، ولا وظائف مرموقة، ولا حتى صحة جيدة أو حياة متوازنة. إذن، لماذا يرون أن الناس تحسدهم؟ على قول المثل: يُحسد الأعور على كبر عينه!
وجدت أنهم يغرقون أنفسهم بشدة في تتبّع أحوال الآخرين وحياتهم. هناك ممن يعتقدون أنهم محظوظون، ويسعدون لسماع أي خبر غير سار يخصّهم، لكي تهدأ نفوسهم ويبرد بركان الغل المتوهّج في صدورهم. ولو أنهم ركزوا على أنفسهم وطهّروا قلوبهم من تلك المشاعر السلبية لشعروا ببركة الله تعمّ حياتهم. إلا أنهم اختاروا النفس الحقودة الساخطة، فلن يكسبوا إلا المزيد من السخط، وحياتهم المليئة بالخوف تهوي في بؤس.
ترى، ما الذي يجعل الكل خائفًا من الحسد إلى هذه الدرجة حتى ولو كان لا يملك ما يُحسَد عليه؟
لماذا الحسد لا يوجد إلا في قاموس محدودي الأشياء؟
فالأثرياء يمتلكون كل شيء، نجاحات وحياة رائعة، فلماذا لا يوجد حسد في محيطهم وبيئاتهم؟ لماذا يفعلون كما في قوله تعالى: ﴿وأما بنعمة ربك فحدّث﴾، بلا خوف، بل بسعادة ورضا وراحة؟
الجواب بسيط: لأن حياتهم مركّزة على أهدافهم وعلى أنفسهم وتطويرها، وأعمالهم وجودة حياتهم. في عقلهم لا توجد مساحة للتفاهة: من يحسدني؟ ومن يقول عني؟ عقلهم مزدحم بما ينفعهم، بالبحث عن جوهرهم وتعديل ذواتهم. إذا امتنّ الشخص بالشكر لفضل الله على ما وهبه من نعم، عاش مطمئنًا.
كل شخص يفكر أنه يجب أن يخفي أبسط الأشياء العادية بحجة الحسد، فهو عقل سطحي ممتلئ بالقشرة، ممتلئ بالضعف.
أنا أؤمن بوجود الحسد، ولكن توجد المعوذات وكلام الله حصن. وأؤمن بوجود قلوب غير نظيفة، لكن كلما كنت في معية الله لم يصبك شيء. الحسد – كما قال الله تعالى: ﴿ومن شرّ حاسد إذا حسد﴾ – يعود أولًا على صاحبه بالتعب النفسي والصحي وتعب الحياة. فالشر دائمًا يضرّ صاحبه قبل أن يضرّ غيره.
لذا، راقب شرك: على ماذا ولماذا؟ وراقب حديث نفسك.
يقول الفقيه أبو الليث السمرقندي:
“يُصيب الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل حسده إلى المحسود: أولها غم لا ينقطع، وثانيها مصيبة لا يُؤجر عليها، وثالثها مذمّة لا يُحمد عليها، ورابعها سخط الرب، وخامسها يُغلق عنه باب التوفيق.”
ولو فكرت قليلًا ستجد أن متوجّس الحسد هو نفسه حاسد. وانقلب السحر على الساحر، فظنّ من فراغ عقله المتأمل في نعم غيره أن الآخرين مثله، سيحسدونه على كبر كرشته المتدلّية وسوء منقلب حياته.
ولكي تعرف قيمة عقلك جيدًا، انظر فيما يقضي فراغه. ما الذي يشغله؟
هل هو عقل مجترّ في التفاهة وحياة الآخرين والكماليات والمظاهر؟ أم عقل يفكر كيف يطور روحه واتزانه النفسي ويتعلم شيئًا جديدًا ومفيدًا؟
عقل يتغير للأفضل ويغير محيطه للأفضل، عقل مبتعد عن التسويف والمماطلة، عقل يصنع نجاحاته مهما كانت بسيطة.
هل سألت نفسك يومًا: ما الشيء الجوهري الذي أنجزته اليوم في حياتي؟
ما الصفة الحسنة التي سأطورها في نفسي؟
ما الذي سأضيفه هذا الشهر في قائمة إنجازاتي البسيطة؟
ستجد أن عقلك ابتعد عن اجترار الفراغ، ولن يصبح مرتعًا لحكايات أمثال: فلانة تطلقت، وعلانة تزوجت، وسأكذب كثيرًا لأخفي نعمة سيارتي المستعملة، أو أنها حامل (رغم آلاف الحوامل مثلها في العالم يحتفلن بحملهن ويُعلنّ نعمته).
فكّر جيدًا في النعم التي تملكها، وامتن واشكر الله من قلبك، وثمّن حديثك قبل أن تدور الدنيا. فالحياة لا تُبقي ولا تُبقي لأحد