الشهادات المزيفة… عبء ثقيل على المجتمعات وكارثة أخلاقية ومهنية
خالد عبدالله المرباطي
في عالم اليوم، حيث أصبحت الشهادات الأكاديمية تتجاوز حدود الجامعات وتُصبح سلعة رقمية يُروج لها بسهولة، يكشف الواقع أن تجارة “الشهادات المزيفة” أو “غير المعترف بها” بلغت أرقامًا مقلقة. وفق مواقع مختصة، هناك أكثر من 3,300 “مصنع درجات” (diploma mills) حول العالم تروّج شهادات مزورة.
ووفق دراسة حديثة، فإن هذه الصناعة تدرّ على من يبيعونها مليارات الدولارات سنويًا، حيث تجاوز حجمها – حسب تقدير بعض الخبراء – سبعة مليارات دولار.
منذ بضعة عقود، كانت الشهادة الجامعية تمثّل ثمرة جهد طويل، وسعيًا للمعرفة، وقيمة علمية يجب احترامها. اليوم، أصبح البعض ينظر إليها كوسيلة سهلة للحصول على ألقاب مبهِرة ووظائف رفيعة بمجرد دفع مبلغ معين. هذا التحول لا يمثل فحسب خرقًا للقيم الأكاديمية، بل يفتح الباب أمام فساد مهني خطير يهدد صحة البنية التحتية الاجتماعية والاقتصادية.
الشهادات المزورة ليست مجرد أوراق مزيّفة؛ هي غش مكشوف. وعندما يُستخدم هذا الغش في التوظيف، يتسلم أشخاص غير مؤهلين مناصب يتجاوزون فيها أصحاب الكفاءة درسًا وخبرة. هذا ليس ظلمًا فرديًا فحسب، بل “لقمة غير مشروعة” تُؤخذ من كفاءات حقيقية، وتُعد خداعًا يستفيد منه الفاسد على حساب المجتمع.
خطر هذه الظاهرة يتجلى بصورة أقوى في المهن الحساسة:
– في القطاع الصحي والطب: شهادة غير حقيقية قد تترجم إلى أخطاء طبية، أو تشخيصات خاطئة، أو وصف وصفات غير آمنة، مما يعرّض حياة الناس للخطر ويُقوّض ثقة الجمهور في المؤسسات الصحية.
– في الهندسة والبناء: وجود مهندسين بدون تأهيل حقيقي قد يؤدي إلى تصميم بنية تحتية ضعيفة، مبانٍ غير آمنة، ومشروعات تتعرض للانهيار أو العطل المبكر.
– في الاستشارات واتخاذ القرار: من يمنح الاستشارات دون خلفية علمية قوية قد يُوجّه استراتيجيات خاطئة في الإدارة أو المشاريع، ويؤثر في حياة الموظفين وموارد المؤسسة، وربما حتى في اقتصاد الدولة.
هذه الظاهرة لا تضر الأفراد فقط، بل تضر الأمة بأكملها. من يغش نفسه ويغش مؤسسات المجتمع يرتكب فشلًا أخلاقيًّا كبيرًا، ويسهم في زعزعة الثقة في التعليم والعمل. القول بأن هناك “شهادات تكتسب فورًا مقابل المال” يعبّر عن أزمة جمة في ثقافة التعليم والمهنة؛ فالشهادة ليست مجرد لقب، بل مسؤولية أولًا وأخيرًا.
وقد ربط بعض أكاديميين هذه القضية بالغش الأخلاقي العام، معتبرين أن من يحمل شهادة مزورة “يغش الأمة” لأنه يستولي على مكان لا يحق له فيه، ويؤثر سلبًا في من يستحقون حقًّا. وبحسب قانون ديني وإنساني، فإن الغش والخداع محرمان، ولا يمكن التساهل مع من يحوّل التعليم إلى تجارة.
من الناحية المجتمعية، إن انتشار مثل هذه الشهادات المزورة يضعف البنية التحتية للمؤسسات، لأن أساس التوظيف والترقية لم يعد يعتمد دائمًا على الكفاءة، بل في بعض الأحيان على الاسم الورقي وحده. المجتمع حينها يصبح محكومًا بخطر مزدوج: أولًا الأفراد غير الأكفاء في مواقع صنع القرار، وثانيًا إضعاف الثقة في التعليم والعمل كقيمة وطنية
إذن، ما السبيل للخروج من هذا المستنقع؟
– تعميق الرقابة الأكاديمية: ضرورة ربط التوظيف بجهات معترف بها فقط، والتأكد من الاعتماد الحقيقي للشهادات قبل قبولها.
– فرض معايير تحقق صارمة للشهادات الأكاديمية عبر الجهات الحكومية والتعليمية، مع تبني آليات تدقيق قوية مثل التحقق الرقمي من الجامعات والمؤسسات التعليمية.
– تفعيل العقوبات تجاه المزورين: ليس فقط قانونيًّا، وإنما أخلاقيًّا واجتماعيًّا، بحيث لا يُسمح باستخدام شهادة مزيفة دون تداعيات.
– نشر الثقافة العلمية الحقيقية: تعليم الشباب أن الشهادة ليست مجرد ورقة، بل تمثّل معرفة، ومسؤولية، ومساهمة في خدمة المجتمع.
في النهاية، إن المعركة ضد الشهادات المزورة ليست مجرد نزاع إداري، بل نضال من أجل مصداقية التعليم، وسلامة المهن، ورخاء المجتمعات. لا بد من إرادة جماعية ومسؤولية وطنية لكبح هذا الفساد الأكاديمي قبل أن يصبح القاعدة ويحلّ محل المعرفة الحقيقية.